وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا متفق عليه.
--------------------------------------------------------------------------------
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين، ذكر المصنف -رحمه الله- في هذا الباب جملة من الأخبار التي تحث وتدعو إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، وقد كان النبي -عليه الصلاة والسلام- يدل على ذلك بقوله وفعله، ومكارم الأخلاق، من تخلق بها لزم منه أن يجتنب دنيئها وسفسافها، ومن اجتنب دنيئها وسفسافها لزم أن يتخلق بمكارم الأخلاق، لكن قد يكون في الإنسان أخلاق من الأخلاق الحسنة، وربما خالط أو واقع بعض الأخلاق السيئة فعليه أن يهتدي بهديه -عليه الصلاة والسلام- ويطلع على سيرته، وما كتب في ذلك في شمائله - صلوات الله وسلامه عليه-؛ لأنها أعظم معين على العمل بهذه الأخلاق الحسنة.
والمصنف -رحمه الله- صدر بحديث ابن مسعود يعني في الصحيحين، وهذا اللفظ لفظ مسلم: عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا والكذب محرم ومن كبائر الذنوب، بل إن بعض أهل العلم يرى أن الكذبة الواحدة يستحق بها وصف الواقع في كبائر الذنوب.
والكذب مراتب كثيرة، فقد يكون كذبا في شهادة زور، وقد يكون كذبا في دعوى، ومفاسده بحسب مرتبته وبالجملة على المسلم أن يجتنب هذه الخصلة الدنيئة، والكذب كما قال أبو بكر -رضي الله عنه- مجانب للإيمان، مجانب للإيمان، وكذلك قال عبد الله بن مسعود فيما صح عنه، وأبو بكر -رضي الله عنه- وفيه مروان بن أبي شيبة: يطبع المؤمن على الخلال كلها، إلا الخيانة والكذب إلا الخيانة والكذب وهما متلازمان، فيكذب ثم يئول به إلى الخيانة خلقان سيئان قبيحان، وقد جاء هذا مرفوعا عند الإمام أحمد من رواية أبي أمامة لكنه لا يثبته، والثابت أنه موقوف على ابن مسعود وأبي بكر الصديق -رضي الله عنه-.
وثبت عند أحمد بإسناد صحيح، أن أبا بكر -رضي الله عنه- خطب الناس، فقال: أيها الناس، وأخبر عن النبي -عليه الصلاة والسلام- أنه خطبهم وقال: عليكم بالصدق فإنه مع البر ويهدي إلى الجنة، وإياكم والكذب فإنه مع الفجور، وهو يهدي إلى النار، وسلوا الله العفو والعافية بين أن الصدق مع البر والكذب مع الفجور، وذلك أن الإنسان قد يكذب ويتساهل في الكذب ثم يؤدي به إلى الفجور وإذا أدى به إلى الفجور أوقعه في خصال أقبح من الكذب، ومبدؤها هو الكذب، والكاذب لا ثقة فيه ولهذا تقدم معنا أنه من خصال المنافق، في حديث أبي هريرة، وحديث عبد الله بن عمرو وهو في الصحيحين: وإذا حدث كذب جعله من خصال النفاق، وهذا وجه مآله إلى الفجور؛ لأن قلب المنافق فاجر انفتح على جميع أنواع الشرور والمعاصي بلا مبالاة، والإقدام والجرأة مثل انفجار الماء أو مثل انفجار الشيء الذي يسير، وربما أتلف ما أمامه، كذلك هذا يفجر أمامه لا يبالي ولا يسأل كما قال الحسن، ركب رأسه.
أما المؤمن لا يقول ماذا أردت بهذا؟ لماذا عملت هذا؟ ما الذي جعلني أعمل هذا؟ وقّاف محاسب لنفسه، على الصغائر قبل الكبائر تجده يسأل نفسه، ويحاسبها، قبل أن يحاسب؛ فلهذا بين النبي -عليه الصلاة والسلام- أن الرجل إذا صدق وتحرى الصدق يعني اجتهد في تحري الصدق وبالغ، فإنه يهديه إلى البر وما أحسن هذه الخصال، خصلة الصدق والبر، وانظر إن الصدق يهدي إلى البر، ومن هدي إلى البر فقد ظفر بسعادة الدنيا والآخرة، البر يجمع الأخلاق كلها، الحسنة والواجبة، التي بين الله وبين خلقه، التي بينك وبين الله، والتي بينك وبين خلقه - سبحانه وتعالى-؛ لأنه يشمل الأعمال القاصرة والأعمال المتعدية، يشمل كل شيء، وكل ذلك بخصلة الصدق.
والصدق نوعان: صدق في الأعمال، وصدق في الأقوال، والمعول هو الصدق في الأعمال؛ لأنه هو الذي يكون به عمله صحيحا حينما يصدق في عمله، وأعظم الأعمال أعمال القلوب، ومن صدق في عمله باطنا صدق في عمله ظاهرا في الجوارح على اللسان الذي هو رائد القلب والمتكلم عنه، والأعضاء كلها تكفر اللسان تقول: إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان تقول إنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا كما رواه الترمذي وغيره من حديث أبي سعيد الخدري، تكفر: أي تخضع وتذل، لأنه هو المتكلم والقلب هو القائد فاللسان هو الناطق عنها، يعني أنه لا يظهر ولا يبدو ما يكون من عمل، إلا ما يظهر على لسانه، وربما فلتات لسانه أحيانا يدل على ما لم يتكلم به، والقلب هو الأصل وهو القائد، كذلك الكذب يهدي إلى الفجور، وما أقبح هاتين الخصلتين الكذب والفجور، والفجور أقبح؛ لأنه يجمع شرار الأعمال وما يقبح من الخصال، لأنه يجعل يتحرى، شوف انظر كلمة يتحرى في الصدق ويتحرى في الكذب، هذا يتحرى الخير ويتوقى الشر، وهذا يتحرى الشر ويتوقى الخير، ما أبعد ما بينهما البون شاسع، ولهذا جاءت أخبار في بعضها ضعف في التقبيح من الكذب والتشديد.
وقد جاء في حديث عبد الله بن عامر عند أبي داود بإسناد فيه ضعف، لكن يشهد له ما رواه أحمد عن أبي هريرة، أن أمه دعته وقالت: تعال أعطك خبزة، وكان النبي يسمع -عليه السلام-، قال: أما إنك لو لم تعطه لكتبت عليك كذبة وجاء عند أحمد نصا بقوله: من قال لصبي تعال أعطك فلم يعطه كتبت عليه كذبة انظر قال لصبي، حتى يعود الصبيان الصغار من الجواري على الصدق؛ لأنه حينما يعوده أو يتهاون بالكلمة اليسيرة، يكون سببا في نشأته على هذه الأخلاق فالواجب هو التربية على الأخلاق الحسنة كما أشار النبي المصنف -رحمه الله- نعم.